الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومعنى قوله تعالى: {وَحُقَّتْ} أي: حق لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر ولا تمتنع، وهي حقيقة بالانقياد لأنها مخلوقة له في قبضة تصرفهُ.قال المعرب: الأصل حق الله طاعتها، ولما كان الإسناد في الآية إلى السماء نفسها، والتقدير: وَحُقَّتْ هي، كان أصل الكلام على تقدير مضاف في الضمير المستكنّ في الفعل، أي: وحق سماعها وطاعتها، فحذف المضاف، ثم أسند الفعل إلى ضميره، ثم استتر فيه.{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} أي: بسطت وجعلت مستوية، وذلك بنسف جبالها وآكامها كما قال: {قَاعاً صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} [طه: 106- 107]، ولذا قال ابن عباس: مُدَّتْ مدَّ الأديم العكاظيّ؛ لأن الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه واستوى.{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي: ما في جوفها من الكنوز والأموات {وَتَخَلَّتْ} أي: وخلت غاية الخلوّ، حتى لم يبق شيء في باطنها، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلوّ.{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: انقادت له في التخلية، وحق لها ذلك؛ وإعادة الآية للتنبيه على أن ذلك تحت سلطان الجلال الإلهي وقهره ومشيئته. وجواب {إِذَا} محذوف للتهويل بالإبهام، أي: كان ما كان مما لا يفي به البيانُ، أو لاقى الْإِنْسَاْن كدحه، كما قال: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}قال ابن جرير: أي: إنك عامل إلى ربك عملاً فملاقيه به، خيراً كان أو شراً. المعنى: فليكن عملك مما ينجيك من سخطه، ويوجب لك رضاهُ، ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك.وقال القاشانيّ: أي: إنك ساعٍ مجتهد في الذهاب إليه بالموت، أي: تسير مع أنفاسك سريعاً، كما قيل: أنفاسك خطاك إلى أجَلِك، أو مجتهد مجدٌّ في العمل: خيراً أو شراً، ذاهب إلى ربك فملاقيه ضرورة.قال: والضمير إما للرب وإما للكدح. وأصل الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه، حتى يؤثر فيها، من: كدَح جلده، إذا خدشه، فاستعير للجد في العمل وللتعب، بجامع التأثير في ظاهر البشرة.{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ بِيَمِينِهِ} وهم من آمن وعمل صالحاً واتصف بما وصف به الأبرار، في غير ما آية.{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قال ابن جرير: بأن ينظر في أعماله فيغفر له سيئها ويجازى على حسنها.وقال القاشاني: بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة، لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية.{وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} أي: زوجته وأقاربه، أو قومه من يجانسهُ ويقارنهُ من أصحاب اليمين {مَسْرُوراً} أي: بنجاته من العذاب، أو بصحبتهم ومرافقتهم، وبما أوتي من حظوظه.{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} أي: أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره، وهو على هيئة المغضوب عليه، أمام الملك المنصرف به عن ذاك المقام إلى دار الهوان {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]،{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} أي: ينادى بالهلاك وهو أن يقول: واثبوراه! واويلاه! وهو من قولهم دعا فلان لهفهُ، إذا قال: والهفاهُ.{وَيَصْلَى سَعِيراً} أي: يدخل ناراً يحترق بها.{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي: منعماً مستريحاً من التفكر في الحق والدعاء إليه والصبر عليه لا يهمه إلا أجوفاه، بطراً بالنعم، ناسياً لمولاه {إِنَّهُ ظَنَّ أن لَّن يَحُورَ} أي: لن يرجع إلى ربه، أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيي ويموت ولا يهلكه إلا الدهر؛ فلم يك يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً ولا يبالي ما ركب من المآثم، على خلاف ما قيل المؤمنين {قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26]، {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]، {بَلَى} أي: لَيحورن وليرجعن إلى ربه حياً كما كان قبل مماته {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} أي: بما أسلف في أيامه الخالية فيجازيه عليه.{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} وهي الحمرة في الأفق من ناحية مغرب الشمس {وَاللَّيْلِ وَمَا وسق} أي: جُمع وضمَّ مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير أو يدب نهاراً، كذا قال ابن جرير والأظهر أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها، لاشتمال الليل عليها، فكأنه تعالى أقسم بجميع المخلوقات كما قال: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38- 39] {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: اجتمع وتمَّ نوره وصار كاملاً.{لتركبن طبقا عَن طبق} أي: حالاً بعد حال، والمعنى بالحال الأولى البعث للجزاء على الأعمال، وبالثانية الحياة الأولى. وفيه تنبيه على مطابقة كل واحدة لأختها؛ فإن الحياة الثانية تماثل الأولى وتطابقها من حيث الحس والإدراك والألم واللذة، وإن خفي اكتناهها. وجوز أن يكون {طبقا} جمع طبقة وهي المرتبة، أي: لتركبن مراتب شديدة مجاوزة عن مراتب وطبقات، وأطواراً مرتبة بالموت وما بعده من موطن البعث والنشور.قال الشهاب: الطبق معناهُ ما طابق غيرهُ مطلقاً في الأصل، ثم إنهُ خص بما ذكر، وهو الحال المطابقة أو مراتب الشدة المتعاقبة.و{عَنِ} للمجاوزة أو بمعنى: بعد. والبعدية والمجاوزة متقاربان لكنه ظاهر في الثاني {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: بهذا الحديث، وقد أقام لهم الحجة على التوحيد والبعث.{وَإِذَا قرئ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ} أي: لا يَخضعون ولا يستكينون ولا ينقادون.قال في (الإكليل): وقد استدل به على مشروعية سجدة التلاوة.{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [22- 25]{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} أي: بآيات الله وتنزيله المبين لِما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقيق موجبات تصديقه، والإضراب عن محذوف تقديره- كما قال الإمام- لا تظن أن قرع القرآن لم يكسر أغلاق قلوبهم، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم، بلى قد بلغ وأقنع فيما بلغ، ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الإيمان ويصدهم عن الإذعان، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل، وإنما هو تقصير المستدل وإعراضه عن هدايته، فالإضراب يرمي إلى محذوف من القول يدل عليه السابق واللاحق.{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي: بما يسرون في صدورهم من حقية التنزيل، وإن أخفوه عناداً. أو بما يضمرون من البغي والمكر، فسيجزيهم عليه. ولذا قال: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: جزاء على تكذيبهم وإعراضهم وبغيهم.{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم. والاستثناء منقطع أو متصل، على أن المراد بمن آمن من أسلم منهم فآمنوا باعتبار ما مضى أو بمعنى: يؤمنون، وكونه منقطعاً أظهر لمجيء {لَهُمْ أَجْرٌ} بغير فاء. والله أعلم. اهـ.
{وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وسق (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)}فإنما هي التعاسة التي ليس بعدها تعاسة. والشقاء الذي ليس بعده شقاء!.. (ويصلى سعيرا).. وهذا هو الذي يدعو الهلاك لينقذه منه.. وهيهات هيهات!وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعا إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء..{إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يحور}..وذلك كان في الدنيا.. نعم كان.. فنحن الآن- مع هذا القرآن- في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيدا في الزمان والمكان!{إنه كان في أهله مسرورا}.. غافلا عما وراء اللحظة الحاضرة؛ لاهيا عما ينتظره في الدار الآخرة، لا يحسب لها حسابا ولا يقدم لها زادا.. {إنه ظن أن لن يحور} إلى ربه، ولن يرجع إلى بارئه، ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف لاحتقب بعض الزاد ولادخر شيئا للحساب!{بلى إن ربه كان به بصيرا}..إنه ظن أن لن يحور. ولكن الحقيقة أن ربه كان مطلعا على أمره، محيطا بحقيقته، عالما بحركاته وخطواته، عارفا أنه صائر إليه، وأنه مجازيه بما كان منه.. وكذلك كان، حين انتهى به المطاف إلى هذا المقدور في علم الله. والذي لم يكن بد أن يكون!وصورة هذا التعيس وهو مسرور بين أهله في حياة الأرض القصيرة المشوبة بالكدح- في صورة من صور الكدح- تقابلها صورة ذلك السعيد، وهو ينقلب إلى أهله مسرورا في حياة الآخرة المديدة، الطليقة، الجميلة، السعيدة، الهنيئة، الخالية من كل شائبة من كدح أو عناء..الدرس الثالث: 16- 19 القسم بمشاهد الكون على تغيير أحوال الناس:ومن هذه الجولة الكبيرة العميقة الأثر بمشاهدها ولمساتها الكثيرة، يعود السياق بهم إلى لمحات من هذا الكون الذي يعيشون فيه حياتهم، وهم غافلون عما تشي به هذه اللمحات من التدبير والتقدير، الذي يشملهم كذلك، ويقدر بإحكام ما يتوارد عليهم من أحوال:{فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتَّسَقَ.. لتركبن طبقا عن طبق}..وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها، لتوجيه القلب البشري إليها، وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها.. لمحات ذات طابع خاص. طابع يجمع بين الخشوع الساكن، والجلال المرهوب. وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة.فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب.. وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة. ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق. كما يحس برهبة الليل القادم، ووحشة الظلام الزاحف. ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون!{والليل وما وسق}.. هو الليل وما جمع وما حمل.. بهذا التعميم، وبهذا التجهيل، وبهذا التهويل. والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير.. ويذهب التأمل بعيدا، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر، وعوالم خافية ومضمرة، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير.. ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير: {والليل وما وسق}.. إنما يغمره من النص العميق العجيب، رهبة ووجل، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون!{لتركبن طبقا عَن طبق (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قرئ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)}{والقمر إذا اتَّسَقَ}.. مشهد كذلك هادئ رائع ساحر.. وهو القمر في ليالي اكتماله.. وهو يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع الموحي بالصمت الجليل، والسياحة المديدة، في العوالم الظاهرة والمكنونة في الشعور.. وهو جو له صلة خفية بجو الشفق، والليل وما وسق. يلتقي معهما في الجلال والخشوع السكون..هذه اللمحات الكونية الجميلة الجليلة الرائعة المرهوبة الموحية يلتقطها القرآن لقطات سريعة، ويخاطب بها القلب البشري، الذي يغفل عن خطابها الكوني. ويلوح بالقسم بها ليبرزها للمشاعر والضمائر، في حيويتها، وجمالها وإيحائها وإيقاعها، ودلالتها على اليد التي تمسك بأقدار هذا الكون، وترسم خطواته، وتبدل أحواله.. وأحوال الناس أيضًا وهم غافلون:{لتركبن طبقا عن طبق}.. أي لتعانون حالا بعد حال، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال. ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها. والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي، كقولهم: (إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه).. وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة. وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة، مقدرة كذلك مرسومة، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتَّسَقَ. حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم، الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة.. وهذا التتابع المتناسق في فقرأت السورة، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى، ومن جولة إلى جولة، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع..الدرس الرابع: 20- 25 لوم وعذاب الكفار لعدم إيمانهم وثواب المؤمنين الصالحين:وفي ظل هذه اللمحات الأخيرة، والمشاهد والجولات السابقة لها في السورة، يجيء التعجيب من أمر الذين لا يؤمنون. وأمامهم هذا الحشد من موحيات الإيمان ودلائله في أنفسهم وفي الوجود:{فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟..}أجل! فما لهم لا يؤمنون؟إن موحيات الإيمان في لمحات الوجود، وفي أحوال النفوس، تواجه القلب البشري حيثما توجه؛ وتتكاثر عليه أينما كان. وهي من الكثرة والعمق والقوة والثقل في ميزان الحقيقة بحيث تحاصر هذا القلب لو أراد التفلت منها. بينما هي تناجيه وتناغيه وتناديه حيثما ألقى بسمعه وقلبه إليها!{فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟} وهو يخاطبهم بلغة الفطرة، ويفتح قلوبهم على موحيات الإيمان ودلائله في الأنفس والآفاق. ويستجيش في هذه القلوب مشاعر التقوى والخشوع والطاعة والخضوع لبارئ الوجود.. وهو (السجود)..إن هذا الكون جميل. وموح. وفيه من اللمحات والومضات واللحظات والسبحات ما يستجيش في القلب البشري أسمى مشاعر الاستجابة والخشوع.وإن هذا القرآن جميل. وموح. وفيه من اللمسات والموحيات ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل، وببارئ الوجود الجليل. ويسكب فيه حقيقة الكون الكبيرة الموحية بحقيقة خالقه العظيم.. {فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟}..إنه لأمر عجيب حقا. يضرب عنه السياق ليأخذ في بيان حقيقة حال الكفار، وما ينتظرهم من مآل:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}{بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم بما يوعون. فبشرهم بعذاب أليم}..بل الذين كفروا يكذبون. يكذبون إطلاقا. فالتكذيب طابعهم وميسمهم وطبعهم الأصيل. والله أعلم بما يكنون في صدورهم، ويضمون عليه جوانحهم، من شر وسوء ودوافع لهذا التكذيب..ويترك الحديث عنهم، ويتجه بالخطاب إلى الرسول الكريم: {فبشرهم بعذاب أليم}.. ويا لها من بشرى لا تسر ولا يودها متطلع إلى بشرى من بشير!وفي الوقت ذاته يعرض ما ينتظر المؤمنين الذين لا يكذبون، فيستعدون بالعمل الصالح لما يستقبلون. ويجيء هذا العرض في السياق كأنه استثناء من مصير الكفار المكذبين:{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. لهم أجر غير ممنون}..وهو الذي يقال عنه في اللغة إنه استثناء منقطع. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يكونوا داخلين ابتداء في تلك البشارة السوداء ثم استثنوا منها! ولكن التعبير على هذا النحو أشد إثارة للانتباه إلى الأمر المستثنى!والأجر غير الممنون.. هو الأجر الدائم غير المقطوع.. في دار البقاء والخلود..وبهذا الإيقاع الحاسم القصير، تنتهي السورة القصيرة العبارة، البعيدة الآماد في مجالات الكون والضمير. اهـ.
|